Alternative text missing

البحر | הים

فيلم شاي كَرملي ﭘـولاك وباهر إغباريّة، بدعمٍ من صندوق روزا لوكسمبورغ، والذي فاز في الشهر الفائت بجائزة "أوفير" لأفضل فيلم، يروي قصّة طفلٍ يعيش في قريةٍ قرب رام الله، يحاول الوصول للبحر لأوّل مرّةٍ بحياته.

في أحد الأيام، قبل نحو خمسة عشر عامًا، وبعد فترة قصيرة من تعارفنا، قال لي شريكي: "سنتبنّى طفلًا ليومٍ واحد". كان ذلك تصريحًا مفاجئًا من شخصٍ منطوٍ ومنضبطٍ مثل شريكي، وبالأخصّ في مرحلةٍ مبكرةٍ من علاقتنا. أجبته: "حسنًا"، وقد انتابني شعور بالفضول والمرح. تبيّن لي لاحقًا أنّ ناشطين إسرائيليّين اصطحبوا مجموعة من الأطفال من إحدى قرى الضفّة الغربيّة في رحلة منظّمة إلى شاطئ البحر. لكن كان هناك طفل اسمه أحمد (اسم مستعار) لم يتمكّن من الانضمام إلى الرحلة. يبلغ أحمد من العمر أربعة عشر عامًا، وينتمي إلى عائلة يعرفها شريكي جيدًا. كانت الرحلة مخصّصة لطلاب المدرسة فقط، بينما ترك أحمد المدرسة ليساعد عائلته في رعي قطيع الأغنام. عندما رأى شريكي خيبة الأمل الكبيرة التي أصابت أحمد، وعده بأن نأخذه إلى البحر، وهذا فعلًا ما حدث.

كان الطقس لطيفًا، وقضينا يومًا رائعًا معًا. وبما أننا سافرنا في سيارة إسرائيليّة، لم نثر أيّ شك، وعبرنا الحاجز العسكري من الضفة الغربية إلى إسرائيل دون أيّ مشاكل. زرنا حديقة الحيوانات في القدس، حيث أثارت الأسماك اهتمام أحمد بشكلٍ خاص. ثم تناولنا الطعام في أحد مطاعم يافا، وتوجّهنا نحو البحر. الأفق البعيد، والنسيم، والرذاذ المالح، والأمواج التي تلامس الشاطئ وتغسل القدمين برفق، كلّ ذلك أثّر في أحمد وبدّد خجله. وهكذا كنّا ببساطة: فتى وراشدان يقضون وقتًا ممتعًا على شاطئ البحر تحت شمس الشتاء المائلة إلى الغروب. لطالما قضيت الوقت بهذا الشكل مع ابني (الذي كان في عمر أحمد تقريبًا) في الأماكن نفسها التي زرناها مع أحمد في ذلك اليوم. وكانت تلك المرة الأولى التي يزور فيها أحمد هذه الأماكن، وعلى حدّ علمي، بقيت المرة الوحيدة حتى الآن.

تأخّر الوقت، وحان موعد العودة؛ أنا إلى منزلي في تل أبيب، وشريكي وأحمد إلى منزليهما في الجنوب. لم يكن من المفترض وجود حواجز عسكرية في الطريق من إسرائيل إلى الضفة الغربية. في اليوم التالي، علمتُ أنّهما في طريق عودتهما إلى البيت أوقفهما الجنود عند حاجز عسكري مفاجئ أُقيم على الطريق دون سابق إنذار، فصلوا بينهما، وحققوا مع زوجي، وبعد نحو ساعة ونصف، أطلقوا سراحهما وصادروا السيارة لمدة شهر.

عندما شاهدت فيلم "البحر | הים" لشاي كرمِلي بولاك (سيناريو وإخراج) وباهر إغبارية (إنتاج)، تذكّرت ذلك اليوم مع أحمد. خالد، بطل الفيلم (محمد غزاوي)، هو طفل من إحدى قرى رام الله يبلغ من العمر 12 عامًا. ولأول مرة في حياته، يحصل على فرصة لزيارة شاطئ البحر ضمن رحلة مدرسية نُظِّمت ورتّبت فيها تصاريح الدخول المطلوبة لكل الأولاد، والمعلم، والسائق المرافق. عند وصول الحافلة إلى الحاجز العسكري، يتبيّن وجود مشكلة في تصريح دخول خالد، فيتابع أصدقاؤه رحلتهم، بينما يُضطر هو للعودة إلى منزله. لاحقًا، يقرّر خالد الانطلاق في رحلته الخاصة لزيارة البحر، رغم أنّه لا يعرف اللغة العبريّة ولا الطريق. أما والده (خليفة ناطور)، وهو عامل بناء يعمل في إسرائيل دون تصريح، فيخرج للبحث عنه.

يقول المخرج شاي كرمِلي بولاك في اللقاءات التي تُجرى معه بمناسبة صدور الفيلم إن الشوق والحنين إلى البحر حاضرَان جدًا لدى الفلسطينيين في الضفّة الغربية، وإن الحديث عن هذا الموضوع متكرّر في كل مكان يزوره هناك. غالبًا ما يكون البحر على بُعد أقل من ساعةٍ بالسيارة، وأحيانًا يمكن للناس أن يصعدوا إلى أسطح منازلهم فيرَوه مباشرةً من هناك، لكن يتعذّر عليهم بلوغه إلا إذا حصلوا على تصريحٍ من السلطات الإسرائيلية. غير أنّ الحصول على هذه التصاريح يكاد يكون مستحيلًا، خصوصًا بعد السابع من أكتوبر 2023.

أعتقدُ أنّه ما من ناشطٍ أو ناشطةٍ إسرائيليين أو دوليين، إلا ولديهم على الأقل قصةٌ واحدة عن زيارةٍ إلى البحر برفقة فلسطينيين. هذه القصص، كقصتي مع أحمد وقصة الفيلم، تتشابه وتتباين في آنٍ معًا، عددًا لا يُحصى من النسخ المختلفة والمتنوعة على موضوعٍ واحد، يختزل في داخله طبيعة الاحتلال: القيود الصعبة على حرية الحركة، وعلى انتظام الحياة اليومية، وعلى حدّ معقول من حرية الاختيار، والأصعب من ذلك، تقويض الروح وتحطيم الأحلام.

Youtube Video

Hier finden Sie externe Inhalte von YouTube.
Mit dem Anklicken des Videos erklären Sie sich mit den Nutzungsbedingungen von YouTube einverstanden.

خذوا مثلًا مشهد وصول الحافلة التي تقلّ خالد والأولاد والمعلم إلى الحاجز العسكري. يدور الحديث عن حاجز عسكري أقامته إسرائيل ويشغّله جنود (أو حراس أمن خاصون أحيانًا). يفصل هذا الحاجز بين الأولاد الفلسطينيين وبين الطريق المفتوحة المؤدية إلى البحر. فجأةً، يصمت الأولاد الذين كانوا حتى تلك اللحظة يهتفون ويلعبون في الحافلة. يبدو الجندي الذي صعد لتفتيش الحافلة فظًّا مزعجًا ولا ينتمي إلى المشهد، منتهكًا جوّ الرحلة السنوية الذي كان سائدًا قبل لحظات. يستلم الجندي من المعلم قائمة بتفاصيل الطلاب ليفحص تصاريحهم، ثم يبلّغه بوجود مشكلة في تصريح خالد، لذلك لا يمكنه متابعة الرحلة. وبمزيج مقرف من استعراض السيادة والبلادة وعدم الصبر، لا يكلّف الجندي نفسه عناء تقديم أيّ توضيح. المعلم، وخالد، والأولاد، ونحن المشاهدين أيضًا، لا نعرف ما الخلل في تصريح خالد تحديدًا. لا خيار أمام المعلم، الذي حاول عبثًا الحصول على تفسير أو التواصل مع الجندي، سوى الانصياع للأوامر التعسفية.

في بداية الفيلم، كان من الصعب التحرّر من الجانب الرمزي لكل شخصية ومشهد. الجدة تجلس في المطبخ تقطع أوراق العنب بصبرٍ لإعداد طبق الدوالي التقليدي. والنساء اللواتي يلتقيهن خالد في طريقه يحنون عليه ويساعدنه، ما منحني الانطباع بوجود تمييز بين "إسرائيليين طيبين" في الحياة اليومية، وبين الجيش والشرطة اللذين يمثّلان الدولة.

ولكن، مع تقدّم الفيلم والتعمّق في حبكته المقدّمة بحساسيةٍ ولطف، ازداد انجذابي إلى القصة الشخصية لخالد، وقصة والده، وبقية الشخصيات. خلال رحلة الحافلة نحو البحر، يتبادل خالد أطراف الحديث مع راكبة تتحدث العربية. "من أين أنت؟"، تسأله. "من رام الله"، يجيب. "وإلى أين تريد أن تصل؟"، تواصل. "إلى البحر"، يردّ خالد برقةٍ وعزيمةٍ تميّزان الفتى-الرجل. فتى يرغمهُ الواقع على أن ينضج قبل أوانه، لكنه يرفضُ الاستسلامَ لإملاءاتِ هذا الواقع، ويُصرُّ مواصلة رحلته. أمّا البحر، فهو مكان يمكن أن تكون فيه طفلًا، ولو لبرهة، ومكان تتنفس فيه الصعداء، وترى الأفق المفتوح، وتركض على الشاطئ وتلعب في الرمال والمياه، بدلًا من قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع الفارغة المنتشرة في قرية خالد، حيث يستخدمها الجيش الإسرائيلي لتفريق المظاهرات السلمية الأسبوعية ضد سياسات الاحتلال.

في نهاية المطاف، ليس ظلم الاحتلال ورعبه هو ما يحفّز الشخصيات، بل الغرائز والمشاعر الإنسانية الأساسية. هذه هي قوة الفيلم. فعندما يعلم ربحي، والد خالد، باختفاء ابنه، يخرج بلا تردد للبحث عنه، رغم أنه لا يعرف مكانه، ورغم تهديد صاحب العمل بطرده إن لم يعد فورًا، ورغم احتمال القبض عليه ومحاكمته وسجنه لعمله دون تصريح. وكما يقول أحد زملائه لصاحب العمل حين يحتج على مغادرته: "ولكنه ابنه".

الاعتراف بإنسانية الآخرين والتواصل الإنساني حاضران طوال الفيلم، كما كانا حاضرين في عملية إنتاجه. فطاقم العمل مكوّن من يهود وفلسطينيين، على رأسهم المخرج (اليهودي) شاي كرملي بولاك، والمنتج (الفلسطيني حامل الهوية الإسرائيلية) باهر إغبارية. وكذلك طاقم التمثيل، كلّه مختلط. وفي حفل إطلاق الفيلم ضمن مهرجان القدس للسينما هذا العام، قال شاي كرملي بولاك إن العمل المشترك بين طاقم يهودي-فلسطيني، وطاقم ثنائي اللغة (العربية والعبرية)، أثّر فيه وكان مصدرًا للأمل. وقال في إحدى المقابلات: "كانت تجربة العمل المشترك قوية، ويصعب تخيّلها في هذه الفترة".

في ظل الواقع الكارثي والمرعب الذي نعيشه اليوم، ومع حجم القتل والدمار والعنف وفي ظلّ فقدان عدد هائل من الناس لحياتهم ولمنازلهم، ولقدرتهم على الحصول على الغذاء والرعاية الطبية، ولمقوّمات البقاء عمومًا —أمام كل ذلك، قد تُعتبر زيارة شاطئ البحر رفاهية. لكن هذا الفيلم بالذات ذكّرني بأن الأمور يجب ألا تكون كذلك، وأنه يحق لكل من يعيش بين نهر الأردن والبحر المتوسط، يهودًا وفلسطينيين، ليس فقط البقاء على قيد الحياة، بل أن يعيشوا بكرامة وبأقصى ما يمكن، وأن تكون طريقهم إلى البحر مفتوحة.

ترجمة للعربيّة: منى أبوبكر

اشترك في نشرتنا البريدية