Alternative text missing

لجنة بيل، أبو غوش 1936

درس في التاريخ

مذكّرات معلّمة في مدرسة ثانوية يهوديّة-إسرائيليّة


آدﭬـا زيلتسر هي معلّمة في موضوع التاريخ وناشطة يساريّة. خلال عملها كمعلّمة في مدرسة ثانويّة حكوميّة يهوديّة-إسرائيليّة لمدّة عشر سنوات، كان عليها دائمًا أن تُجسّر الفجوة بين الأمرين – بين المنهج التعليميّ الرسميّ الوطنيّ، ورؤيتها الأممية. وصل طلّابها وطالباتها إلى دروسها بعدما قضوا عشر سنوات في نظام التعليم الإسرائيليّ مشبعين بسرديّات قومية التي ذوّتوها في عددٍ لا متناهٍ من الطقوس، والأعياد، وأيام إحياء ذكرى، والرحلات، وغالبًا ما افتقروا إلى معرفة أيّ طريقة أخرى لسرد التاريخ. غالبًا ما قوبِلت محاولاتها لوضع الأمور في نصابها الصحيح بمعارضة، خاصّةً من قِبَل زملائها وزميلاتها في غرفة المعلّمين. في كتابها "درس في التاريخ")، المتوقع صدوره عام 2026،  تدعو القرّاء إلى الاطّلاع على ما يحدث في غرفة الصفّ، وتطلب منهم  كما طلبت من طلّابها  إعادة النظر والنقد فيما يعتقدون أنّهم يعرفونه عن تاريخ الصهيونيّة، وتشكيل دولة إسرائيل وسلوكها حتّى اليوم، داخل الخطّ الأخضر وخارجه.  

فيما يلي عيّنة من الفصل الثالث من الكتاب الذي يتناول العقد الأخير من الانتداب البريطانيّ على فلسطين (1937-1947).

                                            * * *

مقدّمة

اندلعت "الثورة العربية" ضد الحكم الاستعماريّ البريطانيّ في فلسطين في عام 1936، بادّعاء أنّها تُمكّن الصهيونيّة من سلب الأرض من أصحابها التاريخيّين الشرعيّين – الفلسطينيّين. كانت هذه الأرض أرضًا عربيّة، وأُعطيت للمهاجرين اليهود الأوروبيّين الذين وصلوا بأعدادٍ متزايدة، خاصّة بعد صعود هتلر إلى السلطة في ألمانيا، وكانوا يُشكّلون في ذلك الوقت حوالي 30% فقط من السكّان. في عام 1936، بعد حوالي شهر من اندلاع الثورة العربيّة، قرّرت الحكومة البريطانيّة تشكيل لجنة تحقيق مَلَكيّة لفحص أسباب اندلاع الثورة ومحاولة صياغة مقترحات لحلّ. قدّمت اللجنة استنتاجاتها وتوصياتها عند انتهاء تحقيقاتها في تمّوز 1937، والتي تضمّنت فكرتيْن رئيسيّتيْن: تقسيم الأرض، وترانسفير. في نهاية المطاف، لم تتبنّ الحكومة البريطانيّة هذه الأفكار، واختارت الترويج لدولة ثنائيّة القوميّة. ولكن، ترسخت هذه الأفكار بعمقٍ في الفكر الصهيونيّ لتصبح مفاهيم رئيسيّة في الخطاب السياسيّ الإسرائيليّ حتّى يومنا هذا. أثارت الأفكار حول التقسيم والترانسفير في الصف الدراسيّ نقاشات مثيرة، شملت إسماع نداءات وأصوات من طرف الطلّاب لا يسهل هضمها بسهولة، فالاستماع إلى الأصوات المتحمّسة المؤيّدة للترانسفير هو جهد هائل بالنسبة لي، من دون التعبير عن صدمتي أو الردّ بقسوة. أحيانًا، وخصوصًا في الأيام التي كان فيها العنف منتشرًا في البلاد – ممّا أثّر على مزاجي – فشلت في هذا الامتحان، وأشعر بالأسف لذلك.

يناقش المنهج التعليميّ بإيجازٍ لجنة بيل واستنتاجاتها، أمّا موضوع الترانسفير بالتأكيد غير مذكور به. على النقيض من ذلك، يتناول المنهج بشكلٍ موسّعٍ خطّة التقسيم التي اقترحتها الأمم المتحدة، والتي تمّ اعتمادها في 29 تشرين الثاني 1947. حتّى اليوم، يُستخدم قرار التقسيم هذا كذريعةٍ لما حدث بعد ذلك في حرب 1948، وحتّى طلّابي كرّروا ما اعتدنا سماعه في الخطاب العامّ – لم يوافق الفلسطينيّون على قرار التقسيم، لذا لا يمكنهم لوم أحد لفقدانهم كلّ شيء في الحرب. سُمعت في الصفّ أصوات أخرى أيضًا تحدّت هذه السرديّة بسؤالٍ بسيط – وهل كنتم ستوافقون إذا كنتم مكانهم؟ ممّا أثار حماسي في هذا المرحلة من السنة التعليميّة ودروسنا المشتركة. كما هو متوقّع، لم تكن إجابة لهذا السؤال. كيف يمكننا الإجابة عنه؟ لو أجاب الطلّاب: "نعم، بالطبع كنّا سنوافق"، لما كان ذلك مقنعًا، لأنّهم يعرفون بالفعل كيف شعر الفلسطينيّون إزاء وصول الصهاينة إلى بلادهم وإعلانهم بأنّ البلاد أصبحت ملكهم. من يمكنه أن يوافق على إعطاء جزء من بيته لأجانب ظهروا تحت رعاية قوّة أجنبيّة وادّعوا أنّه ملكهم؟ لو أجابوا: "لا، كيف يمكنك الموافقة على مثل هذا الأمر؟"، لكانوا قد قوّضوا ادّعاءاتهم بأنفسهم. يجب طرح هذا السؤال، بالضبط لأنّه لا يوجد جواب بسيط له.

أصرّيت على طرح سؤال آخر في الصف، وهو سؤال لا نفكّر فيه عادةً – هل وافق الصهاينة حقًّا على التقسيم بنيّة احترامه وتطبيقه، أم كان ذلك خدعة سياسيّة دبلوماسيّة؟ خدعة من أشخاص ذوي خبرة ودهاء يدركون جيّدًا أنّه يمكنك دائمًا القول "نعم" والعمل بعكس ذلك تمامًا. الاتّفاق الصهيوني على قرار التقسيم محفور في وعينا الجمعيّ كحقيقة لا جدال فيها، ولذلك من واجبنا كأشخاص مفكّرين أن نعيد النظر فيه.

لجنة بيل: اقتراح التقسيم الأوّل (1937)

في 18 أيّار 1936، قرّر البرلمان البريطانيّ إنشاء لجنة تحقيق مَلَكيّة لفحص أسباب اندلاع الثورة العربيّة وتقديم توصياتها. عُيّن اللورد بيل (Peel) لرئاسة اللجنة التي ضمت ستّة أشخاص اخرين. في شهر تشرين الثاني، زار أعضاء اللجنة البلاد والتقوا بقادة يهود وفلسطينيّين، وبمسؤولي الحكم الانتدابيّ على البلاد. "من برأيكم، من بين الطرفين، طالب لجنة بيل بإنهاء الانتداب والسماح بالاستقلال، الفلسطينيّون أم اليهود؟"، سألت الصفّ، وكان الجواب في الغالب أن كلا الطرفين طالبا بالاستقلال.

صحيح أنّ كلا الطرفين أرادا الاستقلال، لكن مسألة التوقيت المناسب لم تكن أقلّ أهمية من انتهاء الانتداب. أرادت القيادة الفلسطينيّة أن ينتهي الانتداب بأسرع وقتٍ ممكن، فبالنسبة للفلسطينيين، كانت بريطانيا شريكة في الاستيلاء اليهوديّ الصهيونيّ وسلبهم وطنهم. كرّر القادة الفلسطينيّون في اجتماعاتهم مع اللجنة مطالب محددة: يجب إلغاء فكرة الوطن القوميّ اليهوديّ، ووقف الهجرة اليهوديّة، وحظر بيع الأراضي لليهود، وإنهاء الانتداب البريطانيّ، وإقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة. شعر الفلسطينيّون أنّهم مستعدّون للاستقلال، وخافوا من ازدياد قوّة الجالية اليهوديّة في البلاد طالما استمرّ الانتداب، جغرافيًّا وديموغرافيًّا واقتصاديًّا، واعتقدوا أنّ إمكانيّة إقامة دولة فلسطينيّة على كامل أراضي فلسطين ستبتعد أكثر فأكثر.

فضّلت القيادة الصهيونيّة استمرار الانتداب البريطانيّ على البلاد بالضّبط لنفس الأسباب التي دفعت الفلسطينيّين للمطالبة بإقامة دولة فلسطينيّة فورًا. فيما يتعلّق بمصالح الصهيونيّة و"الييشوف" (الاستيطان) اليهوديّ في فلسطين – الذي تكوّن في ذلك الوقت من 400,000 شخص فقط، ولم يكن مستعدًّا للحكم الذاتيّ – كان وجود بريطانيا لا يزال ضروريًّا. بالإضافة إلى ذلك، خشي الصهاينة أن يؤدّي انتهاء الانتداب في هذه المرحلة إلى استقلال فلسطينيّ، وليس يهوديّ. حاييم وايزمان، أحد أبرز القادة الصهاينة، أدلى بشهادته أمام اللجنة عدّة مرات، حيث أدلى بشهادةٍ علنيّةٍ مرّة واحدة، وأدلى بها أربع مرّات خلف أبواب مغلقة، وليس للنشر. في إحدى هذه الشهادات السرّيّة، هاجم وايزمان الفلسطينيّين، في محاولةٍ منه لإقناع أعضاء اللجنة بأنّهم غير مؤهلين للاستقلال الوطنيّ:

القوميّة العربيّة هي تقليص فظّ للجانب المادّي من القومية الأوروبية – تقليص فظّ جدًّا. إنّهم يأخذون الأشكال الخارجيّة؛ يأخذون، إنّ صحّ لي التعبير، البنادق الرشّاشة، وليس المحتوى الأخلاقيّ، ولا "النهضة" المرتبطة بالقوميّة كما هو الحال دائمًا... لا يوجد في أرض إسرائيل صورة واحدة، ولا لوحة أو كتاب واحد رسمه أو كتبه عربيّ قوميّ. لم يتمّ التعبير عن حبّهم لوطنهم في الأدب أو في أيّ إنجاز أخلاقيّ، بل في الرشّاشات، وفي الاستخدام الناجح جدًّا للديناميت الذي حصلوا عليه بشكلٍ غير قانونيّ... بسبب نقص الثقافة، وبسبب نقص الاستقرار، ونقص الرؤية الأكبر، يعامل هذا الشعب كلّ شيء بازدراءٍ وبسرعة كبيرة. هم عرق عصبيّ؛ مكتئبون جدًّا، ويصلون إلى النشوة سريعًا وبنفس القدر.[1]

بطبيعة الحال، يثير عرض اقتباس من هذا النوع على اللوح حالة عدم ارتياح بين الطلاب، حيث إنّ العنصريّة فيه واضحة، وحتّى مفاجئة. ليس من قبيل الصدفة أن وايزمان تفوّه بهذه الكلمات العنصريّة في غرفٍ مغلقة، لأنّه أدرك بحواسه السياسيّة المتطوّرة أنّ هذه الأفكار قد تضرّ بالصهيونيّة وشرعيّتها لدى المجتمع الدوليّ. يزداد شعور الصدمة عندما يتمّ أيضًا النظر إلى تصريحات وايزمان في ظلّ خلفيّة ما كان يحدث في ألمانيا النازيّة خلال تلك السنوات، والتصوّرات المعادية للساميّة التي رأت اليهود عرقًا يفتقر إلى الأخلاق، والاستقرار العقليّ، والثقافة.

في تمّوز 1937، نشرت لجنة بيل تقريرًا بتوصياتها التي استندت إلى فرضيّة أنّ الانتداب البريطانيّ غير قادر على حلّ الصراع بين الشعبيْن، وبالتالي، يجب أن ينهي دوره في البلاد. الوضع الذي خلقته التزامات بريطانيا المتناقضة تجاه الفلسطينيّين من جهة، والحركة الصهيونيّة من جهة أخرى، يؤدّي حتمًا إلى حلّ واضح، وهو تقسيم الأرض إلى دولتيْن منفصلتيْن وفقًا للمبادئ التالية:

1.     إنشاء دولة يهوديّة مستقلّة على مساحةٍ لا تتجاوز حوالي 20% من أراضي فلسطين.

2.     إنشاء دولة عربيّة مستقلّة على جانبيّ نهر الأردن، والتي ستشمل حوالي 80% من المساحة المتبقّية من فلسطين.

3.     إنهاء الانتداب البريطانيّ لدوره في البلاد، وتأسيس انتداب جديد بدلًا منه يشمل القدس وبيت لحم، بالإضافة إلى ممرّ بين القدس ويافا يقسّم الدولة اليهوديّة المستقبليّة إلى قسمين.

4.     إبقاء مناطق ذات أهمّيّة مسيحيّة في شمال البلاد – مثل الناصرة، ومنطقة طبريّا، وحيفا – تحت سيطرة بريطانيّة جزئيّة.

5.     تنظيم نقل ملكيّة الأراضي بين الدولتيْن. يعني ذلك مصادرة الملكيّة الخاصّة الفلسطينيّة لنحو ثلاثة ملايين دونم من الأرض وتخصيصها للدولة اليهوديّة. كان نقل الملكيّة سيؤدّي حتمًا إلى "تبادل سكّاني" لنحو 225,000 فلسطينيّ، سيجبرون على الانتقال من مساحة الدولة اليهوديّة المستقبليّة إلى الدولة العربيّة المستقلّة، وحوالي 1,250 يهوديًّا سيتم نقلهم في الاتجاه المعاكس.

لم أنهِ السؤال: ماذا برأيكم يعني "تبادل السكّان"؟ إلى أن صرخ أحد الطلّاب "ترانسفير". في الواقع، الإجابة صحيحة، هذا يعني ترانسفير لحوالي 25% من السكّان الفلسطينيّين. لم تكن هذه المرّة الأولى التي يقترح فيها البريطانيّون التقسيم كحلّ لمشكلة في إحدى مستعمرات الإمبراطوريّة. قبل لجنة بيل، كان هناك تقسيم أيرلندا – في عام 1921، تمّ تأسيس دولة أيرلندا المستقلّة من دون أيرلندا الشماليّة، والتي بقيت جزءًا من المملكة المتّحدة. كان هذا التقسيم نموذجًا أوّليًّا لخطط التقسيم المستقبليّة للإمبراطوريّة البريطانيّة بشكلٍ عامّ، وخطّة لجنة بيل بشكلٍ خاصّ. من الصعب اعتبار تقسيم أيرلندا نجاحًا باهرًا، إذ تلاه حرب أهليّة طويلة ودامية في الأعوام 1922-1923، كما اندلع بدءًا بأواخر الستينيّات من القرن العشرين صراع عنيف في أيرلندا الشماليّة استمرّ لمدّة 30 عامًا، وأسفر عن مقتل أكثر من 3,000 شخص.[2] لذا، ليس من المستغرب أنّه في المؤتمر السادس لعصبة الأمم الذي عُقد في جنيف عام 1937، هاجم أمون دي فاليرا، رئيس وزراء أيرلندا الحرة، خطّة لجنة بيل للتقسيم، قائلًا إنّ تقسيم الأراضي هو أشد وأبشع ظلم يمكن أن يُرتكب ضد شعب.[3]  تنبّأ دي فاليرا أنّ المشكلة اليهوديّة-الفلسطينيّة ستزداد تعقيدًا مع التقسيم، وهاجم بريطانيا في خطابه، ملقيًا عليها لوم نشوب الصراع.[4]

لم تكن المرّة الأولى التي يُطرح فيها الترانسفير كحلّ في تقرير لجنة بيل، بل تمّ تبريره في مداولات اللجنة نفسها مع سابقة "تبادل السكاّن" الذي أجري بين اليونان وتركيّا في نهاية الحرب بينهما عام 1922. في عام 1923، تمّ اقتلاع وتهجير ما لا يقلّ عن 1.3 مليون يونانيّ قسرًا من أراضيهم ومنازلهم في تركيّا ونقلهم إلى اليونان، كذلك الأمر مع حوالي 400,000 تركيّ من اليونان إلى تركيّا. استمرّ هذا الترانسفير الجماعيّ حوالي عام ونصف، ووصفه أعضاء لجنة بيل كمحاولة ناجحة عزّزت اقتراحهم. وقد شهد اليونانيّون والأتراك هذا "النجاح" بشكلٍ مختلفٍ تمامًا، كما تخبرنا سيّدة يونانيّة من بلدةٍ في شمال اليونان، كانت تبلغ من العمر 14 عامًا وقت الترانسفير:

لا زلت أتذكّر الفترة التي سبقت مغادرة المسلمين [الأتراك] لبلدتنا في عام 1924. كانوا يتحدّثون اليونانيّة ويكسبون رزقهم من نفس الأعمال التي شغلناها؛ كانوا تجّارًا وأصحاب متاجر، أو مربّي أغنام. أتذكّر اليوم الذي غادروا فيه. قبَّل بعضهم الأرض، وأخذ آخرون معهم أوعية معبّأة بالتراب. كانوا أشخاصًا محترمين؛ شارك رجالهم بجنازاتنا، وكنّا نتبادل صحون الطعام في الأعياد المختلفة. قالوا لنا بأدبٍ إنّهم سيقبلون الطعام الذي نحضره لهم طالما أنّه ليس لحم خنزير. كانوا أشخاصًا عاديّين وبكوا عندما غادروا...[5]

وكيف تفاعل الطرفين مع الخطة؟ سألت طلّابي في محاولةٍ لتحفيز خيالهم التاريخيّ. في الغالب، توصّلت المناقشات إلى أنّ الفلسطينيين عارضوا الخطة أساسًا بسبب الترانسفير، والصهاينة عارضوها بسبب مساحة الأرض. بالفعل، عارض الفلسطينيّون بشدّة كلّ تفاصيل الخطة، ففكرة إقامة دولة يهوديّة، حتّى لو كانت فقط على 20% من أراضي فلسطين، تفتقر إلى أيّ منطق أو عدالة من وجهة نظر ثوّار الثورة العربيّة. تمّ اعتبار ترانسفير حوالي ربع السكّان الفلسطينيّين الذين يعيشون في البلاد لأجيالٍ وأجيالٍ على أنّه ظلم فادح. على أثر نشر التقرير، استأنفت الثورة العربية نشاطها، وتصاعد النضال الفلسطينيّ ضدّ حكومة الانتداب، كما تصاعدت الهجمات على المستوطنات اليهوديّة حتّى تمّ قمعها بعنفٍ من قِبَل قوّات الأمن الانتدابيّة في عام 1939.

أثارت توصيات لجنة بيل نقاشات لا نهائيّة وعاصفة للغاية بين القيادة الصهيونيّة، حيث أجمع اليسار واليمين الصهيونيّ على تصوّر أنّ البلاد بأكملها تنتمي بحكم حقّ تاريخيّ للشعب اليهوديّ – بما في ذلك الجزء الشرقيّ من نهر الأردن. رفضت حركة الصهيونيّة التصحيحيّة قبول اقتسام الضفّة الشرقيّة من حدود الوطن القوميّ اليهوديّ المستقبليّ، كما حدّد البريطانيّون ذلك في عام 1921 عندما سلّموها للملك الأردنيّ، عبد الله. بالنسبة لجابوتينسكي وأتباعه، "هناك ضفّتيْن لنهر الأردن – تلك لنا، وهذه أيضًا"[6] لأبد الآبدين، لذلك أثار تقسيم الأرض مرّة أخرى وتخصيص 20% فقط منها للوطن القوميّ غضبًا ومعارضة شديديْن. كما عارض الصهاينة المتديّنون التقسيم المقترح لأسبابٍ دينيّة ووطنيّة، حيث حكم الحاخامات الذين ينتمون للتيّار الصهيونيّ الديني بأنّ دعم التقسيم يعدّ انتهاكًا للقوانين الدينيّة.[7]  كما فضّل أعضاء حركة "حكيبوتس همأوحاد" الاشتراكيّة تأجيل تأسيس الدولة اليهوديّة على الفور، والاستمرار في توسيع وتعميق الاستيطان اليهوديّ في جميع أنحاء البلاد. أمّا حركة "هاشومير هتصَعير" التي دعمت إنشاء دولة ثنائيّة القوميّة في فلسطين عارضت فكرة التقسيم والفصل بين الشعوب لأسبابها الخاصّة.

انضمّ حاييم وايزمان ودافيد بن غوريون، وهما أبرز وأهمّ قادة الحركة الصهيونيّة في ذلك الوقت، إلى مؤيّدي فكرة تقسيم الأرض بشكلٍ عامّ كأساس للحلّ، لكنّهما اعتبرا ذلك حلًّا مؤقّتًا فقط. اعتبر بن غوريون هذه المرحلة الخطوة الأولى في تحقيق الفكرة الصهيونيّة، وهي دولة يهوديّة صغيرة تتوسّع مع مرور الوقت حتّى تشمل البلاد بأكملها، وربّما حتى أجزاء من شرق الأردن. في تشرين أوّل 1937، شرح بن غوريون لابنه عاموس سبب دعمه لفكرة التقسيم، كجزء أوّل من خطّة طويلة الأمد:

أنا افترض – ولذلك أن مؤيّد متحمّس للدولة، حتّى لو كان الأمر يتعلّق بالتقسيم الآن – أنّ الدولة اليهوديّة الجزئيّة ليست النهاية، بل البداية... سنجلب إلى البلاد كلّ اليهود الذين يمكن جلبهم إليها... سنؤسّس اقتصادًا يهوديًّا متعدّد الفروع... سننظّم قوّة دفاع متطوّرة، جيشًا نخبويًّا... وأنا متأكّد أنّ أحد لن يمنعنا من الاستقرار في جميع أنحاء البلاد الأخرى، سواء باتّفاق متبادل وتفاهم مع جيراننا العرب، أو بطريقة أخرى [...] وبالتالي، لا يوجد لديّ صراع بين العقل والعاطفة. كلاهما يقولان لي: أنشئ دولة يهوديّة فورًا، حتّى لو لم يكن ذلك في كلّ البلاد، سيأتي الباقي مع الوقت، سيأتي بالضرورة.[8]

هنا يكمن أوّل شرخ في افتراض معظمنا، أنّنا نحن، الصهاينة، وافقنا في كلّ فرصة على المساومة. أكّد بن غوريون لابنه صراحةً بأنّ هذه الموافقة كانت مجرد موافقة لتأخير تحقيق الهدف النهائيّ. هذه الموافقة هي محاولة تضليل ومشاركة في اللعبة الدبلوماسيّة لكسب الشرعيّة من المجتمع الدوليّ، ولخلق صورة بأنّ الحركة الصهيونيّة هي حركة وطنيّة معتدلة وتصالحيّة، ولا تريد إيذاء أحد. أمّا خلف الكواليس – وفقًا للرسالة وكما كان الحال في الواقع – سيستمرّ الاستيطان اليهوديّ في البلاد في التنظيم والتعزيز نحو السيطرة الكاملة على جميع أنحاء البلاد، حتّى لو كان ذلك يعني سلب وطن الفلسطينيّين.

مثل أيّ شرخ، غالبًا ما أثارت هذه الرسالة ردودًا تلقائيّة معارِضة في الصف. رُدّدت أكثر من مرة نداءات في الصف مثل: "لكن هكذا يعمل العالم!"، و"الجميع يتصرّف هكذا!"، وهي نداءات حاولت إخفاء صوت تحطيم الصورة الذاتيّة الجماعيّة. إذا كان هذا هو حال العالم، فلماذا فضّل بن غوريون إبقاء هذه الأفكار سرّيّة وحذفها من مجموعة الرسائل إلى أفراد عائلته التي حرّرها 1968؟ كنت أطرح هذا واستمرّ في توسيع الشرخ الذي حدث.

في المؤتمر الصهيونيّ العشرون الذي عُقد في زيورخ في آب 1937، وخلال المناقشات العاصفة حول اقتراح لجنة بيل، ألقى بن غوريون خطابًا تطرّق فيه ليس فقط إلى التقسيم، بل أيضًا لفكرة الترانسفير التي اقترحها البريطانيّون:

يجدر بنا أن نفحص بعناية مسألة ما إذا كان نقل السكّان ممكنًا، وضروريًّا، وما إذا كان أخلاقيًّا ومفيدًا. حتّى الآن، كان هناك نقل للسكّان في منطقة المرج، وفي الشارون وأماكن أخرى. أنتم على علم بعمل الصندوق الوطنيّ اليهوديّ في هذا الصدد. الآن، يجب أن يتمّ نقل السكّان على نطاقٍ مختلفٍ تمامًا. لن يصبح استيطان جديد لليهود ممكنًا في العديد من المناطق في البلاد إلّا بنقل الفلّاحين العرب. أخذت اللجنة [لجنة بيل] هذه المسألة على محمل الجدّ، ومن المهم أن تأتي هذه الخطّة من طرف اللجنة، وليس من طرفنا. لم يكونوا ليصدّقونا... إنّ نقل السكّان هو ما يمكّن من وضع خطّة استيطان شاملة. لحسن حظّنا، يمتلك الشعب العربيّ مساحات شاسعة وقاحلة من الأراضي. القوّة اليهوديّة المتزايدة في البلاد ستزيد أيضًا من إمكانيّاتنا لتنفيذ النقل على نطاقٍ واسعٍ.[9]

هذا الاقتباس – الذي حُذف عمدًا من المحضر الرسميّ للمؤتمر الصهيونيّ العشرين، لكنّه بقي في السجلّات الأصليّة للخطابات ووصل إلى أيدي الباحثين – هو فرصة ذهبيّة لكشف الأفكار الخفيّة وراء الخطاب الدبلوماسيّ الصهيونيّ-الإسرائيليّ للطلاب.[10] ماذا يقول بن غوريون هنا فعليًّا؟ كيف يرى مهمّة الصندوق الوطنيّ اليهوديّ منذ تأسيسه؟ ما هي المهمّة التي يكلّفها للقوّات اليهوديّة المقاتلة؟ هل يعزّز خطابه ادّعاء الفلسطينيّين بشأن رغبة الصهاينة في تجريدهم من أراضيهم وطردهم منها؟ نشأت في الصفّ من هذه الأسئلة التاريخيّة أسئلة في مجالات الأخلاق والسياسة – برأيكم، هل فكرة الترانسفير في فكرة أخلاقيّة؟ هل هي ممكنة أصلًا، وإذا كانت كذلك، كيف يمكن تنفيذها؟ وهل هذا ما نريد أن يحدث؟ كانت النقاشات حول هذه الأسئلة أقلّ حدّة ممّا توقّعت. لم يفهم أولئك الذين ينتمون إلى يمين الخريطة السياسيّة عمّا أثير الضجّة، بل أشادوا بهذا السلوك. من جهةٍ أخرى، تعزّزت مفاهيم عدد قليل من الطلّاب الذين لم يُعرّفوا أنفسهم كصهاينة إزاء هذا الخطاب، بينما واجه أولئك الذين يعرّفون أنفسهم بأنّهم يسار صهيونيّ صعوبة في استيعاب النصوص المكتوبة، ونادرًا ما شاركوا في النقاش.

على عكس ما حدث في الصفّ، كانت النقاشات بين معارضي ومؤيّدي اقتراح التقسيم في ذلك المؤتمر الصهيونيّ عاصفة جدًّا. جاء في القرار الذي اتُّخذ في نهاية المطاف رفض اقتراح التقسيم العينيّ الذي اقترحته لجنة بيل، مع عدم استبعاد احتمال التقسيم الجغرافيّ وتأسيس دولة يهوديّة على جزء من أراضي البلاد، وواصلت القيادة بمناقشة فكرة الترانسفير في أطرٍ أخرى. بإدارة الوكالة اليهوديّة على سبيل المثال:

آرثر روبين – "أنا لا أؤمن بنقل فرد. أنا أؤمن بنقل قرى بأكملها".

مناحيم أوسيشكين – "إذا سألتموني، هل من الأخلاقي اقتلاع 60,000 عائلة من أماكن عيشها ونقلها إلى مكان آخر، وبالطبع منحهم الوسائل للاستيطان – سأقول إنّ ذلك أمر أخلاقي".

ومرّة أخرى بن غوريون – "لمست في خطّة بيل أمريْن إيجابيّيْن: فكرة الدولة والنقل القسريّ [...] أنا أطالب بنقلٍ قسريٍّ. لا أعتبر ذلك غير أخلاقيّ بتاتًا".[11]

بعد عدول الحكومة البريطانيّة عن فكرة التقسيم، ومعها فكرة الترانسفير، أدرك بن غوريون أنّه يجب إبقاء المناقشات متواضعة، بل تجنّبها – حتّى خلف الكواليس – خوفًا من أن تضرّ الحركة الصهيونيّة وتقوّض شرعيّة مطالبها. على الرغم من الإخفاء والإنكار، لم تفقد فكرة الترانسفير سحرها، ولا زالت تشغل بال القياديّين وصانعي السياسات الصهيونيّة-الإسرائيليّة.[12]  

ترجمة للعربيّة: منى أبوبكر

                                               * * *

مصادر

[1] اقتباس من: وايزمان، جابوتينسكي والمسألة العربيّة – قضيّة لجنة بيل"، 'זמנים'، 11، 1983، ص 81.

[2] غاي باينر، "تقسيم إيرلندا يثبت: لا يمكن فرض النسيان على الناس"، مدوّنة: ورشة التاريخ الاجتماعيّ، موقع هآرتس،18.09.2017 - https://www.haaretz.co.il/blogs/sadna/2017-09-18/ty-article/0000017f-f8d0-d887-a7ff-f8f4e9220000

[3] شولاميت ألياش، "دي فاليرا وخطّة تقسيم أرض إسرائيل"، 'קתדרה'، 97، 2000، ص 122.

[4] نفس المصدر، ص 128.

[5] Bruce Clark, "Twice a Stranger – Greece, Turkey and the Minorities they Expelled", Harvard University Press, 2006 , p. 228

[6] من أغنية لجابوتينسكي – "يسار الأردن".

[7] عيراد عومير، "تقسيم أرض إسرائيل: الجدل الصغير مقابل الجدل الكبير"، أطروحة لنيل شهادة ماجستير، جامعة حيفا، 2017، ص 7.

[8] من رسالة بن غوريون لابنه عاموس، لندن، 05.10.1037.

[9] بيني موريس، "ملاحظات على التأريخ الصهيونيّ وفكرة الترانسفير في السنوات 1937-1944"، في: يحيعام فايتس محرّر، "بين الرؤية والتصحيح: مئة عام للتأريخ الصهيونيّ"، زالمان شازار، 1997، ص 199.

[10] نفس المصدر، نفس المصدر.

[11] أُخذت الاقتباسات الثلاثة من: توم سيغيف، "أيّام شقائق النعمان"، كيتِر، 1999، ص 329.

[12] نير حَسون، الاستيطان في غزّة ليس مجرّد شعار، ما يقف في مركز المؤتمر الواسع هو الترانسفير"، هآرتس، 29.01.2024.

مؤلف/ة

آدﭬـا زيلتسر هي دكتور في التاريخ ومعلّمة سابقة بموضوع تاريخ أرض إسرائيل، كما أنّها عضو في مجلس إدارة منظّمة "كسر الصمت". أصدرت في عام 2016 بالتعاون مع جمعيّة "زوخروت" الكتيّب "شروخ - تشقّقات في التاريخ"، وهي رزمة تحتوي على منهج مكمّل لمنهج التاريخ للصفّ العاشر. من المقرّر أن يصدر كتاب "درس في التاريخ" (اسم مؤقّت) في عام 2026.

اشترك في نشرتنا البريدية